شكّل المغزل والمنسج وخيوط الصوف الملونة طفولة المغربية لطيفة الداودي، ابنة منطقة تازناخت بجبال الأطلس. ووجدت هذه الشابة الأمازيغية نفسها نساجة مثل والدتها وجدتها ونساء قريتها، حيث الغزل والنسج جزء من يوميات كل امرأة، والمنسج أداة أساسية في كل بيت.
لطيفة اليوم رئيسة مجموعة ذات نفع اقتصادي بتازناخت، تنتج رفقة بنات قريتها زرابي يعبرن فيها عن ثقافتهن وعاداتهن الأمازيغية الأصيلة، ويسهرن على تسويقها في المغرب والعالم.
مهارة لطيفة
ليست الزرابي عملا يدويا هدفه الربح فقط، تقول لطيفة، بل إنها جزء من هوية هؤلاء النساء، فهن يطلقن العنان لمخيلتهن وأحاسيسهن لرسم لوحات فنية ساحرة، وتتحول الخيوط الصوفية الملونة في أيديهن إلى ريشة مطواعة تنقل على المنسج لحظات فرحهن وحزنهن وعشقهن وانتظارهن وأحلامهن.
وتازناخت أو الزربية الواوزكيتية، من أشهر أنواع السجاد في المغرب، معروفة بجمالها وجودتها وألوانها البراقة، تصنع من صوف جبل "سروة" وهو أجود الصوف بالمغرب، وألوانها مستخلصة من الأعشاب الطبيعية مثل الحناء وقشور الرمان والفوة وغيرها.
مهارة نساء تازناخت لا تخطئها العين، وتتناقلها الألسنة عبر حكايات ظلت خالدة عبر التاريخ، تحمل لطيفة بين يديها زربية وتقول للجزيرة نت بفخر يشع من عينيها إن الزربية الواوزكيتية تنسج بصبر وإحساس مرهف، ومهارة لا تختص بها إلا نساء المنطقة.
طقوس الزربية
وتبدأ الطقوس الأولى لصناعة هذه الزربية في مايو/أيار، بجز صوف الغنم وغسله وتنظيفه في مياه وديان المنطقة الرائقة، ثم تنشيفه وتمشيطه وصباغته بالنباتات الطبيعية، ثم غزل الخيوط الصوفية لتتحول فيما بعد إلى حكايات منقوشة على زرابي تخلب الألباب.
ألوان متوارثة
وتعتمد نساء المنطقة في نسج الزرابي على ثلاثة ألوان رئيسية هي الأحمر والأصفر والأزرق وهي ألوان توارثنها جيلا بعد جيل، لكن ذلك لا يمنع من إضافة ألوان أخرى، وحسب لطيفة فإن زربية تازناخت تتطور باستمرار بفضل خيال وإبداع النساء، لكنها لا تنسلخ عن جذورها وأصالتها المنبثقة من جبال الأطلس الشامخة.
الخيال والإبداع الذي يحرك لطيفة ونساء تازناخت، يسكن أيضا كبيرة فتان ابنة منطقة الشاوية (جهة الدار البيضاء)، فهي تحول الخيوط الى لوحات فنية تنبض بالحياة.
حنين كبيرة
بحنين جارف إلى الماضي، تتذكر كبيرة فتان في حديثها للجزيرة نت كيف بدأت علاقتها بنسج الزرابي وهي في سنوات عمرها الأولى، حين كانت تجلس بجانب والدتها وهي تغازل خيوط الصوف بيديها، بينما صوتها يصدح بالأهازيج.
لم تكتف هذه المرأة الخمسينية بنسج الزرابي "المراحية" التي تعرف بها منطقتها، بل انطلقت في عالم الإبداع لتحول خيوط الصوف إلى زرابي حائطية مضمخة بمعاني الوطنية.
خيال جامح
على أرضية بيضاء، نسجت كبيرة بخيوط ملونة شعار المملكة المغربية، نجمة خماسية بالأخضر، شمس ساطعة، أسدين أطلسيين، تاج ملكي بألوان العلم، ولافتة مكتوب عليها "إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ". تلك أحب الزرابي إلى قلبها، تقول كبيرة، فقد قضت في نسجها سبعة أشهر، استنزفت خلالها أفكارها وخيالها الجامح يحذوها حرص كامل للتدقيق في كامل خطوط اللوحة.
وإلى جانب لوحتها تلك، تصطف أخريات من نفس معين الوطنية، واحدة مكتوب عليها "قسم المسيرة"، وأخرى كلمات النشيد الوطني، وثالثة يظهر فيها مسجد الحسن الثاني أكبر مساجد المملكة.
تقف كبيرة وسط لوحاتها الفنية وزرابيها الزاهية الألوان، تجمع كلتا يديها وتقربهما إلى صدرها وتقول بفرح طفولي "إنهم مثل أولادي، اشتغلت عليهم بكل جوارحي ونسجتهم بأحاسيسي".
العمل اليدوي بالنسبة لكبيرة مزاج وحالة عشق، لذلك قد تقضي شهورا وهي تنسج زربية حائطية أو أرضية دون كلل أو ملل، تغرق في التفاصيل إلى حد تنسلخ فيه عن العالم من حولها، فلا تعود إلى الواقع إلا بعد أن تضع آخر خيط في عملها الفني.
حس خديجة
أما خديجة بنحمزة المنحدرة من مدينة الخميسات (شرق الرباط) فتشتغل على الحنبل أو الزربية الزمورية رمز منطقة زمور، وتختص بأسلوب مغاير في النسج، تقول خديجة التي ورثت بدورها الحرفة عن والدتها إن النساء في منطقتها يشتغلن في نسج الزرابي اعتمادا على حسابات رياضية ووفق أشكال هندسية مضبوطة.
وتعزو خديجة هذه الدقة في العمل إلى أن المنطقة كانت أرض حضارات قديمة، تشير إلى إحدى الزرابي حيث الخطوط الطويلة والرموز الهندسية تتراص بإتقان متناه وتقول "هذه هي الزربية الزمورية الأصيلة"، بيد أنها لا تخفي إدخال نساء زمور تقنيات جديدة في الصباغة والتصميم وعدم تقيدهن بالرموز والأشكال الموروثة عن الجدات.
ويعكس الحنبل الزموري العادات الشعبية للمنطقة وثقافتها الأمازيغية كما تحكي خديجة، وتعكس تلك الخطوط والرموز المميزة والألوان المستعملة حسا إبداعيا راقيا لنساء زمور وتاريخا إنسانيا وحضاريا عريقا.
حماية وتسويق
ولحماية هذا التراث المغربي الأصيل وتسويقه، اجتمعت النساء الثلاث إلى جانب أخريات يمثلن مناطق مختلفة في معرض وطني بالرباط نظمته وزارة الصناعة التقليدية بالتعاون مع جهات رسمية.
وهذا المعرض هو واحد من الواجهات التي تعتمدها الحكومة المغربية للحفاظ على الزربية المغربية اليدوية من الاندثار في مواجهة آلات الحياكة وتراجع عدد الصانعات.
وليست المعارض الجماعية وحدها التي ستحمي هذا التراث الوطني، بل إن وزارة الصناعة التقليدية أطلقت برامج عديدة لها نفس الهدف كما قال للجزيرة نت عبد الجليل الرجراجي مدير المحافظة على التراث والابتكار.
فضاءات للنساجات
ويتحدث الرجراجي عن إنشاء 83 دارا للمهنيين تتوزع على امتداد المغرب، هذه الدور هي فضاءات تجتمع فيها النساء القرويات النساجات لإنتاج الزربية والاستفادة من دورات تكوينية في التصميم والابتكار والتلوين، وأيضا للتواصل المباشر مع المستهلك فهي "تحمي النساء من الوسطاء الذين يشترون منهن الزرابي بأبخس الأسعار، ويبيعونها بمبالغ باهظة" يشرح الرجراجي.
ويشير إلى أنه تم تسجيل 20 علامة جماعية للتصديق ومنح شارات الجودة، (شارات تمنح لأنواع من الزرابي تستجيب لمعايير خاصة للجودة)، وسجلت هذه الزرابي في المكتب المغربي للملكية الفكرية وأيضا في مؤسسات مماثلة في أوروبا وأميركا مما يسمح بحمايتها من القرصنة من بعض الدول المنافسة.
مخاوف النساجات
لطيفة وكبيرة وخديجة، ثلاث حكايات لنساء "معلمات" ينقلن ثقافتهن وأسلوب حياتهن في زرابي منسوجة بحب وشغف، يمتلكن مهارات ورثنها عن الجدات، وأضفن عليها لمسات خاصة معاصرة دون أن يتنكرن لإرث الماضي، لكنهن اليوم مسكونات بمخاوف من اندثار هذا الإرث، بعدما أدار الجيل الجديد ظهره عنه، وبدأت شعلة الصبر والحماس والتمسك بالتراث تنطفئ شيئا فشيئا.
BRVO 3LIK KHOYA
RépondreSupprimer